1/ كان النبَّيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر أمتَّه بتحسين أسمائهم وكان يعجِبُه تغيير الاسمِ ل**لحةٍ تقتضيهِ، وهي قُبحُ معناه، أو دلالتُه على الشؤم والطِّيَرة ونحوها .
روى أبو داود في سننه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّكُم تُدعَونَ يَومَ القَيامَة بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءكُمْ »(5) . قال أبو داود: ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدَّرداء .
قال ابن القيم – رحمه الله - : وفي هذا – والله أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم ا***ن، والوصف المناسِبِ له (6) .
وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أسماءَ عَدَدٍ من الصحابةِ لحبِّه التيمُّن والفأل والاسم ا***ن، ومنهم العاص، حوّله إلى عبدالله، وعاصِيّة إلى جميلة؛ كراهة لاسم العِصيان .
وقد كان العرب يسمّون بالعاص والعاصية ذهابًا إلى معنى الإباء عن قبول النقائص والرضا بالضيم، ***ا جاء الإسلام كرهه لهم، لأن شعار المسلم الطاعة، وصفته العبودية (7) .
ويكون الاسم حاميًا للمرء من أن تحدّثه نفسه بالمعصية والشر فضـلاً عن الوقـوع فيهما (8) .
2/ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأسماء التسمِّي بمالا تزكية فيه ولاذم .
وفي الحديث تحويل اسم «برَّة » إلى «زينب » لأنه كان تزكية ومدحًا، وعلى هذا النحو سائر الأسماء التي غيرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأولى الأسماء بالتسمَّي أقربها إلى الصدق والحق، وأحراها أن لا يشكل على سامعها لأن الأسماء موضوعة للدلالة والتعريف (9) .
قال الطبريُّ: لا ينبغي لأحدٍ أن يتسمَّى باسم قبيح المعنى، ولا باسم معناه التزكية والمدح، ولا باسم معناه الذمّ والسبُّ، بل ينبغي أن يسمِّي بما كان صدقًا وحقًا، فالأسماء لم توضع على المسمَّيات لصفاتها، بل للدلالة على أشخاصها خشية أن يسمح سامع باسم العاصي فيظن أن ذلك صفة له، وأنه سمِّي بذلك لمعصية ربِّه (10) .
3/ الأسماء قوالب المعاني، ودالَّة عليها، وبينهما ارتباط وتناسب، وربما كان للأسماء تأثير في المسمَّيات ، وللمسمَّيات تأثُّر بأسمائها في ا***ن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة، تأمَّل كيف اشتقَّ للنبي صلى الله عليه وسلم من وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد.
وارتبط الاسم بمعناه في اليقظة والمنام كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع فَأتوا برُطَبٍ من رُطب ابن طاب، فأوّله بأن لهم الرفعة في الدنيا والعاقبة في الآخرة .
وأن الدين الذي اختاره الله لهم قد أرطب وطاب (11) ، ولمّا كان بين الأسماء والمسمّيات من الارتباط والتناسب ما بين قوالب الأشياء وحقائقها عَبَرَ العقل من كلٍّ منهما إلى الآخر. كما كان إياس بن معاوية يرى الشخص فيقول ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت، فلا يكاد يخطئ (12) .
4/ قال الطبري – رحمه الله - : ليس تغيير رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غيّر من الأسماء على وجه المنع للتسميّ بها، بل هو على الاختيار والندب إلا إذا كان فيه محذور شرعي يجب تغييره؛ لأن الأسماء لم يتسمّ بها لوجود معانيها في المسمى بها، وإنما هي للتمييز، ولذلك أبيح تسمِّي القبيح بحسن، والرجل الفاسد بصالح ... الخ .
ويدل على ذلك قول جدّ ابن المسيّب للنبي – عليه الصلاة والسلام - حين قال له أنت سهل: ما كنت أغير اسمًا سمّانيه أبي، *** يُلْزِمه الانتقال عنه على كل حال .
ولا جعله بثباته عليه آثمـًا لربه، ولو كان آثمـًا لجبره على الانتقال عنه، إذ غير جائز في صفته عليه السلام أن يَدَعَ منكرًا وله إلى تغييره سبيل (13) .
قال القاضي عياض – رحمه الله - : تحويل الأسماء إلى ما هو أحسن وأولى على طريق الندب والترغيب إلا ما جاء ممنوعًا بالوعيد (14) .
5/ عن ابن عمر – رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُم إلى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرحمنِ » (15) .
لما كان الاسم مقتضيًا لمسمَّاه، متَّصِلاً به عن قُرْبٍ، مؤثّرًا فيه كان أحبُّ الأسماءِ إلى الله عزَّ وجل ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبد الله، وعبد الرحمن، وكان إضافةُ العبوديَّة إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتهما إلى غيرهما، كالقاهر والقادر، فعبد الرحمن أحب إليه من عبد القادر وعبدُ الله أحب إليه من عبد ربِّه، وهذا لأنَّ التعلّق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلُّق الذين بين اللهِ وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده، والغاية التي أوجده لأجلها هي أن يتألَّه له وحده محبَّةً وخوفًا، ورجاءً وإجلالاً وتعظيمًا فيكون عَبْد اللهِ وقد عَبَده لما في اسم الله من معنى الإلهيَّة التي يستحيل أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غَضَبه وكانت الرَّحمة أحبَّ إليه من الغضب، كان عبدُ الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر(16) (17) .
قال القرطبي: كانت أحبَّ إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله تعالى وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية، ثم أضيف العبد إلى الرب إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء، وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة (18) .
5/ في قوله صلى الله عليه وسلم : «لاَ تُزكُّوا أَنْفُسَكُم، اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البرِّ مِنْكُمْ ». وقوله تعالى:( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (19) .
دليل من الكتاب والسنَّة على المنع والنهِّي عن تزكية الإنسان نفسه أو نعتها بنعوت المديح والإطراء .. والمزكَّى من حسنت أفعاله وزكاه الله عزّ وجل، فلا عِبْرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له .
ولما ظهرت هذه النعوت المذمومة كزكي الدين وخير الدين ..ونحوها مع فشوِّ قبائح المسلمين ظهر تخلُّف هذه الأسماء عن معانيها فصارت لا تفيد شيئًا، بَلْه مسبَّة وخزيًا لأصحابها.
وأمَّا تزكية الغير ومدحه فالضابط له أن لا يفرط في مدحه، وبما ليس فيه، فيكون باطلاً، وسببًا إلى دخول الإعجاب والكبر في الممدوح إذ يظنه حقيقة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل .
وعلى هذا تأوّل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا رَأَيْتُم المدَّاحين فاحْثُوا في وُجُوهِهِمُ التُرابَ»(20)