القول الحق في نسك الحج الذي أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [سورة آل عمران آية 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [سورة النساء آية 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [سورة الأحزاب آية 70- 71].
أما بعد:

فهذا بحث سميته (القول الحق في نسك الحج الذي أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم، مع بيان أنواع نسك الحج الأخرى، دراسة فقهية مقارنة). وقد دعاني إلى تأليفه عدة أمور منها:

1 - أنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة هي حجة الوداع والتي قال فيها صلى الله عليه وسلم: ) لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ( رواه مسلم، ومع كونه صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة فقد اختلفت أقوال العلماء واضطربت في تعيين النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم بحسب المذاهب.
وبالتالي اختلفت أقوالهم في الجمع بين الأحاديث المروية في ذلك، كما اختلفوا في تعيين أي الأنساك الثلاثة أفضل. وسبب الخلاف في ذلك كله يرجع إلى اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا، وروي أنه كان متمتعا، وروي أنه كان قارنا؛ وكله في الصحيح، وهي قصة واحدة، فيجب تأويل جميعها ببعضها والجمع بينها.
2 - وأنه قد طعن جماعة من الجهال، ونفر من الملحدين، طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردا، وقارنا، ومتمتعا، وأفعال نسكها مختلفة، وأحكامها غير متفقة؛ وأسانيدها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح؛ ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف.
ذكر ذلك الخطابي في معالم السنن، وقال: يريدون بذلك توهين الحديث والإزراء به وتصغير شأنه وضعف أمر حملته ورواته، ولو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه.
قلت: وقد وفق الله العلماء المحققين أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم إلي بيان أن الأدلة الصحيحة الصريحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
وجمعوا بين الأحاديث المروية في ذلك جمعا حسنا، وأن هذه الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا، يقع مثله في غير ذلك، وأن من تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفهم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب.
3 - جمع شتات هذا الموضوع، حيث إن الكلام عليه جاء مفرقا في كتب الفقه، وكتب شروح الأحاديث، فجمعه في مؤلف واحد يعين على فهمه والاستفادة منه.
لهذه الأمور رأيت من المناسب جمع كلام أهل العلم في هذا الباب؛ لأهميته ودراسته دراسة فقهية مقارنة بذكر الأقوال والأدلة مع مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة، وما يحتاج منها إلى اعتراض أو جواب للوصول إلى الحق بدليله والعمل به، إذ الواجب على طالب العلم أن يعرف الحق بدليله، فيعمل به ويدعو الناس إليه.
وقد اعتمدت كثيرا في هذا البحث على كلام شيخي الإسلام: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، لما في كلامهما من التحقيق المبني على الفهم الدقيق للنصوص الشرعية، لا سيما في هذا الموضوع على وجه الخصوص.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة: فقد بدأتها بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها أسباب بحثي لهذا الموضوع، وخطتي لهذا البحث، ومنهجي في ذلك.
وأما التمهيد: فذكرت فيه تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه.
وأما المبحث الأول: ففي أنواع نسك الحج.
والمبحث الثاني: في حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة.
والمبحث الثالث: في حكم فسخ الحج إلى عمرة.
والمبحث الرابع: في تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أطول المباحث.
والمبحث الخامس: في طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في ذلك.
والمبحث السادس: في أي الأنساك أفضل.
وأما الخاتمة: فتضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث.
وأما منهجي في البحث فأجمله في النقاط التالية:
1 - ذكرت أقوال الأئمة الأربعة في المسائل التي بحثتها وقد أذكر غيرهم.
2 - وثقت هذه الأقوال من **ادرها الأصلية.
3 - ذكرت الأدلة بالتفصيل لكل قول مع المناقشة والترجيح على ضوء الدليل.
4 - رقمت الآيات القرآنية.
5 - خرجت الأحاديث النبوية، وأغلب الأحاديث التي استدللت بها في الصحيحين أو في أحدهما، وما لم يكن فيهما أو في أحدهما خرجته من كتب الأحاديث الأخرى، وذكرت من صححه أو ضعفه من أهل العلم.
هذا وقد بذلت غاية جهدي ليخرج هذا البحث على أحسن وجه، فإن كنت قد وفقت في ذلك فهذا من فضل الله وحده، وإن كنت قصرت في ذلك- ولا أدعي الكمال- فهو مني ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك ومن كل تقصير.
وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقني والمسلمين للعلم النافع والعمل الصالح؛ إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تمهيد في تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه:

تعريف الحج:
الحج بكسر الحاء وفتحها في اللغة: القصد.
وفي الشرع: عرف بتعريفات متقاربة، منها:
ما ذكره ابن أبي هبيرة في الإفصاح من أنه: أفعال مخصوصة في أماكن مخصوصة في زمان مخصوص وقوله: أفعال مخصوصة، تشمل جميع ما يفعله المحرم وما يتجنبه، وقوله: في أماكن مخصوصة، تشمل المسجد الحرام والمشاعر، وقوله: في زمان مخصوص، أي وقت أداء أفعال الحج.
وعرفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه: " التعبد لله عز وجل بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حكم الحج:
هو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام.
والأصل في وجوبه:
الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾ [سورة آل عمران آية 97].
وحرف " على " للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق، فقيل: لفلان على فلان. وقد أتبعه بقوله: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية 97]؛ ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر. وقال الله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [سورة البقرة آية 196].
وأما السنة:
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ) بني الإسلام على خمس (، وذكر منها الحج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ) يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم (.
وأجمعت الأمة على وجوبه على المستطيع في العمر مرة واحدة.
فضل الحج:
ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة صحيحة، منها:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ) سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله " قيل ثم ماذا؟ قال: " جهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور (.
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ) من حج لله *** يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (.
3 - وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: ) يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ولكن أفضل الجهاد حج مبرور (.
والمبرور قيل: المقبول، وقيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل: إن الأقوال التي ذكرت فيه متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، والله أعلم.
شروط وجوب الحج:
شروط وجوب الحج خمسة، هي:
الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة وهي متفق عليها بين الفقهاء.
وتنقسم هذه الشروط ثلاثة أقسام:
منها- ما هو شرط للوجوب والصحة؛ وهو الإسلام والعقل، فلا يجب على كافر، ولا مجنون، ولا يصح منهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات - ومنها ما هو شرط للواجب والإجزاء؛ وهو البلوغ والحرية، وليس بشرط للصحة؛ فلو حج العبد والصبي صح منهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام.
- ومنها ما هو شرط للوجوب فقط؛ وهو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة، فحج كان حجه صحيحا مجزئا؛ كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه.
واختلف العلماء في شرطين، وهما:
1 - تخلية الطريق، بمعنى ألا يكون في الطريق مانع من عدو أو غيره.
2 - إكمال المسير، وهو اكتمال هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه.

المبحث الأول أنواع نسك الحج

النسك في اللغة: العبادة وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، والنسيكة الذبيحة.
وفي الشرع: قال في المطلع: المناسك المتعبدات كلها؛ وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها.
أنواع نسك الحج:
أنواع نسك الحج ثلاثة: " تمتع " و " قران " و " إفراد ". والتمتع في اللغة: الانتفاع. وفي الشرع: هو أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه وسمي المتمتع متمتعا؛ لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت الحج، ولأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين بجعله النسكين في سفرة واحدة.
القران في اللغة: الجمع بين الشيئين مطلقا، وقرن بين الحج والعمرة قرانا- بالكسر- أي جمع بينهما.
وفي الشرع: أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام بهما، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف.
قلت: ويطلق على القران تمتع في عرف السلف.
قال ابن عبد البر: " ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والذين قالوا تمتع- أي الرسول صلى الله عليه وسلم- لم تزل قلوبهم على غير القران، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمى التمتع بالعمرة إلى الحج. ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي؛ لقوله: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [سورة البقرة آية 196]، وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ويحج من عامه، فيترفه بسقوط أحد السفرين، قد أحل من عمرته ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج مع العمرة، أو أدخل الحج على العمرة، فأتى بالعمرة والحج جميعا في أشهر الحج من غير سفر بينهما، فيترفه بسقوط أحد السفرين؛ فهذا كله داخل في مسمى التمتع...
ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى عمرة.
والإفراد في اللغة: الفرد الوتر وهو الواحد والجمع أفراد، وفرد يفرد من باب قتل، صار فردا، وأفردته بالألف جعلته كذلك، وأفردت الحج عن العمرة فعلت كل واحد على حدة...
وفي الشرع: أن يهل بالحج مفردا.
وعمل المفرد والقارن واحد عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، فالقارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن، ويقتصر على أفعال الحج، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج، أما عند الحنفية فالقارن يلزمه أن يطوف طوافين ويسعى سعيين، ولا تدخل أفعال العمرة في الحج عندهم، بل يقدم العمرة ثم يتبعها أفعال الحج، وإنما يشتركان في الإحرام خاصة.

المبحث الثاني: حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة

ذكر غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يجوز الحج بكل نسك من الأنساك الثلاثة لكل مكلف على الإطلاق.
فقد قال ابن هبيرة: " وأجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، لكل مكلف على الإطلاق ".
وقال النووي: " مذهبنا جواز الثلاثة وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم ".
وقال ابن عبد البر: " وفي حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه:
- أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ".
وقال ابن قدامة: " وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، واختلفوا في الأفضل ".
وقال الماوردي: " لا اختلاف بين الفقهاء في جواز الإفراد، والتمتع، والقران، وإنما اختلفوا في الأفضل ".
وقال ابن مفلح - بعد ما ذكر جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة- قال: " ذكره جماعة إجماعا ".
قلت: هذا الذي ذكره جماعة من أهل العلم، وهو الإجماع على جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة، ليس محل إجماع ولا اتفاق على الصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثبت عن ابن عباس وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أم لم يقصده، وليس عند هؤلاء لأحد أن يحج إلا متمتعا. وهذا مذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر ".
قلت: إذا فيكون في المسألة قولان:
الأول: جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة، وهو قول أكثر أهل العلم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول الأئمة الأربعة.
والقول الثاني: أن من لم يسق الهدي فليس بمخير بين الأنساك الثلاثة، بل يتعين عليه أن يحج متمتعا، وهو قول ابن عباس وأصحابه وأهل الظاهر، ومال إليه ابن القيم.
والحجة للقول الأول:
1 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ) من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل (.
2 - وعنها رضي الله عنها، قالت: ) خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج؛ فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة *** يحلوا حتى كان يوم النحر (. متفق عليه.
قال النووي - بعدما أورد الحديثين-: " فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل. أما الحجة للقول الثاني:
فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من حجهم ويجعلوه عمرة، ومنها:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ) خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج، ***ا قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن (.
2 - ومنها حديث جابر رضي الله عنه: ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي قدم من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا، إلا من معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت...، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا بل للأبد... (. متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وفي مسلم عن جابر، قال: ) أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال صلى الله عليه وسلم: حلوا وأصيبوا النساء (. قال عطاء: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال: يقول جابر بيده كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا فقال: ) قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا (، فحللنا وسمعنا وأطعنا، قال عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته، فقال: " بم أهللت "؟ قال: بما أهل به النبي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) فأهد وامكث حراما ( قال: وأهدى له علي هديا. فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: لأبد... ).
ورأى أصحاب هذا القول أن التخيير إنما كان في أول الأمر قلت:
الراجح هو القول بجواز التخيير بين الأنساك الثلاثة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما أمره أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة وأن لا يعتمروا عمرة مكية وإن سافروا سفرا آخر للعمرة. ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع، فالتمتع كان متعينا في حق الصحابة إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم، وكان أولا قد أذن لهم في الفسخ ولم يأمرهم ".

المبحث الثالث: فسخ الحج إلى عمرة

لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز فسخ الحج إلى عمرة مفردة لا يأتي بعدها بالحج، كما أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يفسخ ما أحرم به إلى عمرة. وإنما الذي فيه الخلاف هو بالنسبة لمن كان مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي، هل له أن يفسخ حجه إلى عمرة ليكون متمتعا أم لا؟ كما أن أهل العلم قد اتفقوا على صحة الأحاديث الواردة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر كل من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه ويجعله عمرة.
قال ابن عبد البر: " تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه منهم هدي ولم يسقه وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة.
وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث ".
وبعدما اتفق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة بقوله صلى الله عليه وسلم: ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (. وأمره من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه إلى عمرة، اختلفوا هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هو واجب أو مستحب؟ اختلفوا إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز، سواء ساق الهدي أم لم يسقه، وأن ذلك كان خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - ما روي من طريق الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: ) يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة (. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
2 - عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان بن الأسود، أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: "لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود.
3 - عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة". رواه مسلم وفي رواية عند مسلم عن أبي ذر، قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة: متعة النساء ومتعة الحج. قالوا: والمراد. بمتعة الحج هنا فسخ الحج إلى عمرة.
4 - إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ؛ ليحرموا بالعمرة في أشهر الحج، ويخالفوا ما كانا الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقولهم: إنها من أفجر الفجور.
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي:
حديث الحارث بن بلال لا يصح، وحديثه لا يكتب، ولا يعارض. بمثله الأحاديث الصحيحة. وقالوا: وهو حديث ساقط بالمرة باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرد به ربيعة عن الحارث بن بلال المجهول الذي لا يعرف؛ فهو من افترائه أو من غلطه ووهمه، فإن الحديث المقطوع بصحته قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا، وأن ذلك إلى الأبد، مما هو قاطع بكذب هذا الحديث وبطلانه.
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة، وإن أريد به متعة الفسخ فهذا رأي رآه أبو ذر رضي الله عنه، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما: إن ذلك عام للأمة، فرأي أبي ذر رضي الله عنه معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة.
ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة، بنص النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها، وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن، وهذا أصح سندا من المروي عن أبي ذر رضي الله عنه، وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه.
وأيضا فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأمر به، فمال بعضهم: إنه منسوخ أو خاص، وقال بعضهم: هو باق إلى الأبد، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل، فلا يقبل إلا ببرهان، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه، والحجة تفصل بين المتنازعين، والواجب عند التنازع الرد إلى الله ورسوله؛ فإن قال أبو ذر: إن الفسخ منسوخ أو خاص، وقال أبو موسى وابن عباس: إنه باق وحكمه عام، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل.
على أن المروي عن أبي ذر يحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ.
والثاني: اختصاص وجوبه بالصحابة، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة.
والاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر، من التمتع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساق الهدي، كما صح عنه ذلك.
وأما أن يحرم بحج مفردا ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعة، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدأوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه، ***ا استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه.
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الصريحة به جملة.
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: "لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود.
فقد قال النووي: " إسناد هذا لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس، وقد قال " عن "، واتفقوا على أن المدلس إذا قال " عن " لا يحتج به ".
قلت: وعلى فرض صحته فقد تقدم الجواب عن ذلك. وأما القول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالفسخ؛ ليبين الجواز، وليخالف ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج.
فالجواب عنه:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة، فكيف يظن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى عمرة؟
2 - أنه ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال لهم عند الميقات: ) من شاء أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل (، فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ؟
3 - أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم. وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول، والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره.
4 - وأيضا فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما يبين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه وأن يجعلوا ذلك تمتعا لمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول؛ فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: ) بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة (.
5 - وأيضا فإذا كان الكفار غير متمتعين ولا معتمرين في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج، كما فعل في وقوفه بعرفة ومزدلفة؛ فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويؤخرون الإفاضة من جمع إلى أن تطلع الشمس، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس. وهذا هو السنة باتفاق المسلمين.
فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ، إن كان قصد به مخالفة المشركين فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل وهو سنة، فعلى كلا التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والله أعلم-.
القول الثاني: أن الفسخ جائز بل مستحب. وهو قول الإمام أحمد وا***ن ومجاهد وداود، وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
القول الثالث: وجوب فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي. وبه قال ابن عباس رضي الله عنه، وهو قول ابن حزم ومال إليه ابن القيم.
والأدلة لهذين القولين هي:
1 - الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، وهي متواترة كما تقدم، ولم يختلف أهل العلم في صحتها.
قال الإمام أحمد في رده على سلمة بن شبيب: " عندي أحد عشر حديثا في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ ".
وقال ابن القيم: " روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخه الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه ". ثم ذكرهم، ثم ذكر أحاديثهم التي رووها، ومنها:
حديث جابر في الصحيحين- وفيه-: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، وفيه: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا، وفيه - أي في الحديث- فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: للأبد... ) الحديث.
قال ابن القيم: " وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كان خاصا بهم، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده، لا للأبد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه للأبد ".
2 - ما ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أفتى الناس بالفسخ الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم زمن أبي بكر، ثم زمن عمر رضي الله عنهما.
3 - أن ابن عباس رضي الله عنه كان يأمر بالفسخ كل من لم يسق الهدي ويجعله عمرة، بل كان يرى أن كل من طاف بالبيت وسعى فقد حل، شاء أم أبى.
إلا أن أصحاب القول الثاني يحملون هذه الأدلة على الاستحباب، وأصحاب القول الثالث يحملونها على الوجوب.
يقول ابن القيم رحمه الله: " ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحجج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة؛ تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه... ".
مناقشة أصحاب القول الأول للقولين الثاني والثالث، والجواب عن هذه المناقشة:
1 - أن حديث سراقة بن مالك المقصود به إبطال ما كان يعتقده أهل الجاهلية من امتناع العمرة في أشهر الحج.
قلت: قد تقدم الجواب عن هذا.
2 - أن حديث الحارث بن بلال، قال عنه النووي: لم أر في الحارث جرحا ولا تعديلا، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه، وقد ذكرنا أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد ما يقتضي ضعفه.
قلت: قد تقدم الجواب عن سبب تضعيف العلماء لحديث الحارث بن بلال، ثم كون الحديث لم يضعفه أبو داود لا يلزم منه أن لا يكون ضعيفا، فقد أورد أبو داود حديث أبي ذر برقم 1807، وحديث الحارث برقم 1808، ولم يضعف حديث أبي ذر، وقد قال النووي: " حديث أبي ذر إسناده لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس وقد قال " عن "، والمدلس إذا قال " عن " لا يحتج به ". اهـ.
*** يكتف النووي بعدم تضعيف أبي داود لهذا الحديث، فكذلك حديث الحارث. ذكر أهل العلم أن الحارث مجهول، وحديثه يخالف الحديث الصحيح، مما يدل على بطلان حديث الحارث، ولم يروا عدم تضعيف أبي داود له دليلا على صحته.
3 - قالوا: إن حديث سراقة بن مالك قد اختلف العلماء في معناه، على أقوال:
قال النووي: " أصحها - وبه قال جمهورهم- معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة. والمقصود به إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.
والثاني: معناه جواز القران. وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة.
والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة؛ قالوا: معناه سقوط العمرة. قالوا: ودخولها في الحج معناه: سقوط وجوبها، وهذا ضعيف أو باطل.
والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، وهذا أيضا ضعيف ". اهـ.
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله- بعدما أورد كلام النووي -: " وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك، حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث. والله أعلم ".
قلت - بعد إيراد الأدلة والمناقشات-: فالذي يترجح عندي هو القول باستحباب الفسخ، وليس القول بالوجوب أو التحريم، وأن الوجوب كان خاصا بالصحابة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، أما الاستحباب فباق إلى يوم القيامة؛ وبه تجتمع الأدلة، فقول من قال من الصحابة بأنه خاص بهم، أي وجوب الفسخ، وقول من قال من الصحابة بعموم الفسخ يحمل على جواز ذلك واستحبابه.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: " والذي يظهر لنا صوابه في حديث (بل للأبد )، وحديث الخصوصية بذلك الركب، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية وال**طلحية كما لا يخفى ".

المبحث الرابع: تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم

اختلف العلماء في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب الخلاف أنه روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وروي أنه كان متمتعا، وروي أنه كان قارنا.
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وبه قال الإمام مالك، والشافعي في قول من أقواله.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وهو قول للشافعي، وبه قال بعض أصحاب الإمام أحمد، وبعض أصحاب الشافعي.
وأصحاب هذا القول منهم من رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع تمتعا حل فيه من إحرامه، ومنهم من رأى أنه لم يحل من إحرامه من أجل سوق الهدي.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في المنصوص عنه، حيث قال: " لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا "، وهو قول أئمة الحديث، كإسحاق بن راهويه وغيره، وبه قال ابن حزم، والشافعي في قول، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
أدلة القول الأول:
1 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ) خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج (. متفق عليه. قالوا: وهذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج ( مفردا. رواه مسلم.
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ) أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا (. وفي رواية: ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا (، رواهما مسلم.
4 - عن جابر رضي الله عنه، قال في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ) لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة ( رواه مسلم.
5 - عن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ).
6 - عن عطاء قال: (حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا... الحديث ).
7 - عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي، أنه سأل عروة بن ال**ير، فقال: (قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها، أنه أول شيء بدأ به حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن عمر )... إلخ.
ونوقشت أدلتهم بما يلي:
أن هؤلاء الذين رووا الإفراد - وهم عائشة وجابر وابن عمر - رووا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنا - كما سيأتي في أدلة من رأى القران - ويعترض عليها بالأحاديث الأخرى الصحيحة، التي رواها غير هؤلاء، التي نقل رواتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قارنا، وفي بعضها أنه حج متمتعا، فهي متعارضة في الظاهر ومحتملة إفراد الحج، أو أن مرادهم إفراد عمل الحج، كما أن من روى أنه أفرد الحج لم يقل أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أفردت بالحج، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... وأما الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه إفراد أعمال الحج ).
وقال ابن القيم - بعدما ذكر الأحاديث السابقة التي ذكرناها استدلالا للقول الأول - قال: (فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه، وأخبر عنها بقوله: (سقت الهدي وقرنت )، وخبر من هو تحت بطن ناقته وأقرب إليه حينئذ من غيره، فهو من أصدق الناس، يسمعه يقول: (لبيك بحجة وعمرة )، وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين يخبر أنه أهل بهما جميعا، ولبى بهما جميعا، وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها، *** ينكر ذلك عليها بل صدقها، وأجابها بأنه مع ذلك حاج. وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل يسمعه أصلا بل ينكره. وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاءه من ربه يأمره فيه أن يهل بحجة في عمرة...، إلى أن قال: وليس مع من قال: إنه أفرد الحج، شيء من ذلك البتة، *** يقل أحد منهم عنه إني أفردت، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: ما بال الناس حلوا ولم تحل من حجتك كما حلوا هم بعمرة، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد، ولا قال أحد: إنه اعتمر أربع عمر، الرابعة بعد حجته، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يخبر عن نفسه بأنه قارن، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بأن يقال: لم يسمعوه. ومعلوم قطعا أن تطرق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى من تطرق التكذيب إلى من قال: سمعته يقول: كذا وكذا، وإنه لم يسمعه، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيب، بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله وكان واهما، فإنه لا ينسب إليه الكذب، وقد نزه الله عليا، وأنسا، والبراء، وحفصة عن أن يقولوا: سمعناه يقول: كذا، ولم يسمعوه، ونزهه ربه تبارك وتعالى أن يرسل إليه: أن افعل كذا وكذا، ولم يفعله، هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ولا ناقضوهم، وإنما أرادوا إفراد الأعمال، واقتصاره على عمل المفرد، فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد.
ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا، فإنه عبر بحسب ما فهمه، كما سمع بكر بن عبد الله بن عمر يقول: أفرد الحج، فقال: لبى بالحج وحده، حمله على المعنى، وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه: إنه تمتع فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر، ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به، فإنه فسره بقوله: وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكذا الذين رووا الإفراد عن عائشة رضي الله عنها، فهما عروة والقاسم، وروى القران عنها عروة ومجاهد، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد، والزهري يروي عنه القران، فإن قدرنا تساقط الروايتين سلمت رواية مجاهد، وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضا، ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر:
أفرد بالحج، محتمل لثلاثة معان:
أحدها: الإهلال به مفردا.
والثاني: إفراد أعمال الحج.
والثالث: أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها، بخلاف العمرة فإنها كانت أربع مرات.
وأما قولهما: تمتع بالعمرة إلى الحج، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فحكيا فعله، فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد، فلا يجوز رده بالمجمل، وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهل بالحج، ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها أنه قرن، فإن القارن حاجٌّ مُهِلٌّ بالحج قطعا، وعمرته جزء من حجته، فمن أخبر عنها أنه أهل بالحج فهو غير صادق.
فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود، ثم ضمتا إلى رواية عروة، تبين من مجموع الروايات أنه كان قارنا، وصدق بعضها بعضا، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردا، لوجب قطعا. أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر: اعتمر في رجب، وقول عائشة أو عروة: إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال. إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلا إلى تكذيب رواتها، ولا تأويلها وحملها على غير ما دلت عليه، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها، واختلف عنهم فيها وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلهم عليها.
وأما قول جابر: إنه أفرد الحج، فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا، وإنما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج، فأين في هذا ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج مفردا؟ وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، فله ثلاث طرق. أجودها: طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه. وهذا يقينا مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع مروي بالمعنى، والناس خالفوا الدراوردي في ذلك، فقالوا: أهل بالحج وأهل بالتوحيد...
ثم ذكر ابن القيم الطريقين الأخريين، إلى أن قال: وبكل حال فلو صح هذا عن جابر لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر. وسائر الرواة الثقات إنما قالوا: أهل بالحج، فلعل هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا: أفرد الحج. ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج، فمن قال أهل بالحج لا يناقض من قال أهل بهما، بل هذا فصَّل، وذاك أجمل، ومن قال: أفرد الحج، يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة... ).

أدلة القول الثاني، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا:

1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: ) تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل برأيه ما شاء... ( متفق عليه.
2 - عن عمران بن حصين، قال: ) تمتع نبي الله وتمتعنا معه ( رواه مسلم.
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، ***ا قدموا مكة قال للناس: ) من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد... ( الحديث.
ونوقشت هذه الأدلة:
بأنه ليس فيها دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه.
على أن التمتع المذكور في هذه الأحاديث المراد به القران، فالصحابة يطلقون التمتع ويعنون به القران، يدل لذلك ما في الصحيحين عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، ***ا رأى عليا أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال لقول أحد.
وفي رواية عن سعيد بن المسيب، قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ***ا رأى ذلك علي أهل بهما جميعا.

أدلة القول الثالث، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا:

ورد في ذلك أحاديث كثيرة صحيحة وهي صريحة في ذلك، ومنها:
1 - ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: ) تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج... ( متفق عليه. وقد تقدم في أدلة القول السابق - والمراد بالتمتع هنا القران، كما تقدم.
2 - وفي الصحيحين أيضا عن عروة عن عائشة، أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
3 - عن نافع عن ابن عمر: ) أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم... ( رواه مسلم.
4 - عن ابن عباس: ) اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته (.
5 - عن مجاهد، قال: (سئل ابن عمر: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرتين. فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع ).
6 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:) أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ( قال ابن حجر: وهذا دال أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
7 - ما روى البراء بن عا**، قال: ) كنت مع علي رضي الله عنه حين أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبت معه أواقي، ***ا قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثيابا صبيغا وقد نضحت البيت بنضوح، فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت... ( الحديث.
8 - عن علي بن ا***ين، عن مروان بن الحكم، قال: ) كنت جالسا عند عثمان، فسمع عليا رضي الله عنه يلبي بعمرة وحجة، فقال: ألم نكن ننهى عن هذا؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا، فَلَمْ أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك (.
9 - عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفا، قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثا ينفعك الله به: ) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل قرآن يحرمه (. رواه مسلم قلت: وهذا الحديث صحيح وصريح في أنه كان قارنا.
10 - عن سراقة بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ) دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، قال: وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (.
قال ابن القيم: (إسناده ثقات ).
11 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا ).
قال ابن القيم: (رواه الإمام أحمد، والترمذي، وفيه الحجاج بن أرطأة، وحديثه لا ينزل عن درجة ا***ن ما لم ينفرد بشيء أو يخالف الثقات).
قلت: قال الترمذي: حديث جابر حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم.
12 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ) ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج ( متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال ابن القيم: (وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل، وإنما يمنعه عمرة القران، فالحديث على أصلهما نص ).
وقال ابن حجر: (قول حفصة: (ولم تحل من عمرتك) وقوله هو: (حتى أحل من الحج )، ظاهر في أنه كان قارنا. وأجاب من قال: كان مفردا على قولها: (ولم تحل من عمرتك) بأجوبة: أحدها: قاله الشافعي: معناه: ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ). وقيل: معناه: ولم تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك. قالوا: وقد تأتي (مِن) بمعنى الباء، كقوله تعالى: ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [سورة الرعد آية 11] أي بأمر الله، والتقدير: ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك، وقيل: ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما فعل أصحابه بأمره، فقالت: (لِمَ لَمْ تحل أنت أيضا من عمرتك؟ ) ولا يخفى ما في بعض هذه التأويلات من التعسف، والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا) اهـ وقال ابن حجر أيضا: وأجاب بعض المالكية والشافعية عن ذلك أي - عدم تحلله من العمرة - بأن السبب في عدم تحلله من العمرة كونه أدخلها على الحج وهو مشكل عليه؛ لأنه يقول: إن حجه كان مفردا. وقال بعض العلماء: ليس لمن قال: كان مفردا عن هذا الحديث انفصال.
13 - عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه. رواه مالك والنسائي والترمذي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح قال ابن القيم: (ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج: أحد نوعيه، وهو تمتع القران، فإنه لغة القرآن، والصحابة الذين شهدوا التنزيل والتأويل شهدوا بذلك، ولهذا قال ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكذلك قالت عائشة، وأيضا فإن الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو متعة القران بلا شك، كما قطع به الإمام أحمد ).
ثم ذكر ابن القيم حديث عمران بن حصين في المتعة وكذلك حديث سعيد بن المسيب في اختلاف علي وعثمان في المتعة، ثم قال: (فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمان - أي وافق عليا - على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، لم يقل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه وافقه على ذلك لأنكره، ثم قصد علي إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في ذلك، وبيان أن فعله لم ينسخ، وأهل بهما جميعا؛ تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران، وإظهارا لسنة نهى عنها عثمان متأولا، وحينئذ فهذا دليل مستقل ).
14 - عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ) لبيك عمرة وحجا ( رواه مسلم. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه: ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، بين الحج والعمرة (.
15 - عن قتادة عن أنس: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر - فذكرها - وقال: وعمرة مع حجته )، رواه البخاري.
وقد أورد العلامة ابن القيم اثنين وعشرين حديثا، قال عنها بأنها صحيحة صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
وقال ابن القيم - بعد ما أورد حديث أنس المتقدم -: (فهؤلاء ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا - ثم ذكر هؤلاء الستة عشر، إلى أن قال -: فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه، وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران، وهذا علي أيضا يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه أمره بأن يفعله، وعلمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام، وهذا علي أيضا يخبر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه بأنه فعله، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله، ويأمر به من ساق الهدي. وهؤلاء الذين رووا القران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وجابر، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي وتقرير علي له، وعمران بن الحصين، والبراء بن عا**، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، فهؤلاء سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به... ).
ثم قال ابن القيم: (فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا وعائشة وابن عباس؟ وهذه عائشة تقول: ) أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج (، وفي لفظ: ) أفرد الحج (، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، وهذا ابن عمر يقول: (لبى بالحج وحده) ذكره البخاري، وهذا ابن عباس يقول: ) وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وحده ( رواه مسلم، وهذا جابر يقول: (أفرد الحج) رواه ابن ماجه؟
قيل؟ إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت فإن أحاديث الباقين لم تتعارض. فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد؛ لتعارضها، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها، وإنما ظن من ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم) اهـ.
الراجح:
بعد أن سقنا أدلة من رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وذكرنا المناقشات، والاعتراضات، والإجابات، فالراجح من هذه الأقوال، بل الصحيح منها وهو الحق - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان قارنا ولم يكن مفردا ولا متمتعا، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأهل الحديث وقول للشافعي.
وهذا القول رجحه العلماء المحققون، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والنووي وابن حجر وغيرهم.
قال الإمام أحمد: (لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، والتمتع أحب إلي؛ لأنه آخر الأمرين ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما حج النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارنا، قرن بين الحج والعمرة وساق الهدي...، وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث الذين جمعوا طرقها، وعرفوا مقصدها. وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدا في هذا الباب ).
وقال ابن القيم: (وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا، لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة في ذلك ).
وقال النووي: (والصواب الذي نعتقده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ).
وقال ابن حجر: (والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف، أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة، ثم ذكر - رحمه الله - هذه الجهات... ).
وقد ذكر العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن أحاديث القران أرجح، من خمسة عشر وجها، ثم ذكرها.
قلت: ومن أهم هذه المرجحات ما يلي:
1 - أنهم أكثر من غيرهم كما تقدم.
2 - أن طرق الإخبار بذلك تنوعت.
3 - أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك، وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك، ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد.
4 - تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها.
5 - أنها صريحة لا تحتمل التأويل، بخلاف روايات الإفراد.
6 - أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد، أو نفوها، والذاكر الزائد مقدم على الساكت، والمثبت مقدم على النافي.
7 - أن رواة الإفراد أربعة: عائشة وابن عمر وجابر وابن عباس، والأربعة رووا القرآن، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم، سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض، وإن صرنا إلى الترجيح، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت، كالبراء، وأنس، وعمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وحفصة، ومن معهم.
8 - أنه النسك الذي أمر به من ربه، *** يكن ليعدل عنه.
9 - أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي، *** يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أجوبة من رجح الإفراد على القران، ومنهم البيهقي، وقال: ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من تعسف.

المبحث الخامس: طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم

قد سبق أن ذكرنا أن من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفردا، ومنهم من روى أنه كان متمتعا، ومنهم من روى أنه كان قارنا؛ وهذه الروايات صحيحة في قصة واحدة، فكيف يمكن الجمع بينها؟ والعلماء كما اختلفوا في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في كيفية الجمع بين ما روي في ذلك.
قال النووي: (والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنا، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة، وأمر به في قوله: ) لبيك عمرة في حجة (.
فإذا عرفت ما قلناه سهل الجمع بين الأحاديث. فمن روى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا - وهم الأكثرون كما سبق - أراد أنه اعتمر في أول الإحرام ومن روى أنه كان قارنا، أراد أنه اعتمر آخره وما بعد إحرامه ومن روى أنه كان متمتعا، أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والالتذاذ، وقد انتفع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل. ويؤيد هذا الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا. قبل الحج ولا بعده ).
قلت: وهذا الذي ذكره النووي رحمه الله يعترض عليه بأن رواة الإفراد ليسوا هم الأكثرين، وأن الأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا، كما تقدم.
وذكر الخطابي في كيفية الجمع: (أن كلا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعا، ثم رجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا. وكذا قال عياض، وزاد: وأما إحرامه هو فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا، وأما رواية من روى أنه كان متمتعا، فمعناه أمر به؛ لأنه صريح بقوله: (ولولا أن معي الهدي لأحللت )، فصح أنه لم يتحلل، وأما رواية من روى القران، فهو إخبار عن آخر أحواله، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل له: (قل عمرة في حجة) ا هـ.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديما، ابن المنذر، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهد له المحب الطبري تمهيدا بالغا، يطول ذكره، ومحصله: أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه أمره، ويترجح رواية من روى القران بأمور... ) ثم ذكرها الحافظ ابن حجر.
قلت: هذا الذي ذكروه يعترض عليه بأمور:
منها: أن الأحاديث الصحيحة قد تضافرت على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وليس مفردا كما ذكروه، وقد تقدم بيان ذلك. ومنها: أن الأحاديث الصحيحة قد دلت على أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا، وأنه جمع بينهما، لا أنه أحرم مفردا ثم أدخل العمرة على الحج. ثم إن المالكية والشافعية يرجحون أنه كان مفردا، فكيف يستقيم هذا مع الجمع بأنه كان قارنا آخر الأمر؟
أما القول بأن كل من روى عنه صلى الله عليه وسلم التمتع أراد به ما أمر به أصحابه، فيعترض عليه أن هناك أحاديث صحيحة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، غير الأحاديث التي أمر بها أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. والله أعلم.
ومن أحسن ما جاء في الجمع بين الأحاديث المروية في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم - من أحسن الجمع - ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: (والصواب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع ).
ثم ذكر - رحمه الله - المروي في ذلك، وجمع بين ذلك بما محصله: (أن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من روى أنه. حج متمتعا، وكل من روى الإفراد، قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعا وقرانا، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال الحج ).
وقد نقل ابن القيم ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وارتضاه، إلى أن قال ابن القيم: (قال: وأما الذين نقل عنهم إفراد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، أصح من حديثهما (أنه أفرد الحج)، وما صح في ذلك عنهما فمعناه: إفراد أعمال الحج، أو أن يكون وقع منه غلط كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترة، رواها أكابر الصحابة، كعمر وعثمان وعلي وعمران بن حصين، ورواها أيضا عائشة وابن عمر وجابر، بل رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة.
قلت - القائل ابن القيم -: وقد اتفق أنس وعائشة وابن عمر وابن عباس، على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وإنما وهم ابن عمر في كون إحداهن في رجب، وكلهم قالوا: وعمرة مع حجته، وهم - سوى ابن عباس - قالوا: إنه أفرد الحج، وهم - سوى أنس - قالوا: تمتع، فقالوا: هذا وهذا وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تمتَّع تُمتع قران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النسكين، وكان قارنا باعتبار جمعه بين النسكين، ومفردا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتعا باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين.
ومن تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفهم لغة الصحابة، أسفر له صبح الصواب، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب. والله الهادي لسبيل الرشاد، والموفق لطريق السداد.
فمن قال: إنه أفرد الحج، وأراد به أنه أتى بالحج مفردا، ثم فرغ منه وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره - كما يظن كثير من الناس -، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أئمة الحديث. وإن أراد به أنه حج حجا مفردا لم يعتمر معه - كما قاله طائفة من السلف والخلف - فوهم أيضا، والأحاديث الصحيحة ترده كما تبين. وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده، ولم يفرد للعمرة أعمالا فقد أصاب، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث.
ومن قال: إنه قرن، فإن أراد به أنه طاف للحج طوافا على حدة، وللعمرة طوافا على حدة، وسعى للحج سعيا والعمرة سعيا، فالأحاديث الثابتة ترد قوله. وإن أراد أنه قرن بين النسكين، وطاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله، وقوله هو الصواب.
ومن قال: إنه تمتع، فإن أراد أنه تمتع تمتعا حل منه ثم أحرم بالحج إحراما مستأنفا، فالأحاديث ترد قوله، وهو غلط. وإن أراد أنه تمتع تمتعا لم يحل منه، بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي، فالأحاديث الكثيرة ترد قوله أيضا، وهو أقل غلطا. وإن أراد تمتع القران، فهو الصواب الذي تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة، ويأتلف به شملها، ويزول عنها الإشكال والاختلاف ).
قلت: فالراجح من الجمع بين الأحاديث هو ما ذكره شيخا الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد قال الشوكاني عن الجمع الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه جمع حسن.

المبحث السادس: أفضل الأنساك

اختلف العلماء في الأفضل من الأنساك الثلاثة، وسبب اختلافهم في ذلك يرجع إلى اختلافهم في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه - كما تقدم - قد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
فاختلف العلماء في الأفضل على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الإفراد هو الأفضل، وبه قال الإمام مالك، والإمام الشافعي في الصحيح من المذهب، إلا أن مذهب الشافعي اشترط ليكون الإفراد أفضل أن يعتمر بعد الحج في سنة الحج، أما إن أخر العمرة عن سنة الحج، فكل واحد من القران والتمتع أفضل، بلا خلاف - في المذهب - لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه وممن قال بأن الإفراد أفضل الإمام أبو حنيفة في رواية عنه.
والأدلة لهذا القول:
1 - قالوا: إنه النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج مفردا، على الصحيح - كما تقدم في المبحث الرابع -.
2 - قالوا: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أفردوا الحج، وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف على علي، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد، مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، وكيف يُظَن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال. بما يلي:
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا، فالأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول كما تقدم وأما كون الخلفاء الراشدين فعلوا الإفراد، فإن الإفراد الذي فعله الخلفاء الراشدون الثلاثة: أبو بكر وعمر وعثمان وأمروا به، ليس مختلفا فيه أنه هو الأفضل عند الأئمة الأربعة، وهو أن ينشئ سفرا للعمرة من بلده ثم ينشئ سفرا آخر للحج من بلده، وإنما الخلاف في الأفضل هنا، هو فيمن جمع النسكين في سفرة واحدة، سواء كان قارنا أو متمتعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة، وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. وهو الإفراد، الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي، وقال عمر وعلي في قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [سورة البقرة آية 196] قالا: إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك...
فالمراد بالمنقول عن هؤلاء الخلفاء الراشدين، هو أن ينشئ للعمرة سفرة، ثم ينشئ للحج سفرة أخرى. ويدل لذلك أنه لا من رواية عمر وأنس، وكذلك علي وعثمان وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا - كما تقدم - فكيف يروون بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قارنا ثم يخالفون ذلك؟ فعلم أن مرادهم هو هذا. والله أعلم. 3 - قالوا: إن الدم الواجب بالقران والتمتع جبران للنقص؛ لأنه دم متعلق بالإحرام، أو يختص وجوبه بالإحرام، فأشبه الجزاء ونسك الأذى، وإذا ثبت أنه دم نقص وجبران، فالإتيان بالعبادة على وجه ليس فيه نقص ولا جبران أتم.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يصح من وجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد ثبت أنه كان متمتعا التمتع العام - أي القران - فإن القارن يدخل في مسمى التمتع، فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك.
الثاني: أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات أو ترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام والهدي مكانه، لما في الاستمرار من المشقة فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر.
قلت: ويمكن تلخيص الجواب عن الدليل الثالث: بأن الجميع قد اتفقوا على إباحة القران والتمتع، فدل أنهما غير ناقصين، وكيف يكون ناقصا وقد أباحه الله.
ويضاف إلي ما تقدم، أنه لو كان الإفراد أفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان مفردا بفسخ الحج إلى عمرة.
القول الثاني: أن أفضل الأنساك هو القران، وهو قول أبي حنيفة وزفر وإسحاق والثوري، وقول للشافعي، وبه قال المزني وأبو إسحاق المروزي وابن المنذر، والقاضي حسين من الشافعية، ولم ير أصحاب هذا القول أن القران أفضل بشرط سوق الهدي، بل رأوا أن القران أفضل مطلقا.
والأدلة لهذا القول:
استدلوا بالأحاديث الصحيحة، التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا. قالوا: ***ا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وهو إنما يختار لنفسه الأفضل، دل على أن القران أفضل الأنساك.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأنه وإن كان الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، لكن هذا لا يدل على أنه الأفضل؛ إذ لو كان القران هو الأفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان قارنا ولم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل أصحابه من الحج إلى المتعة، وتأسف كيفا لم يمكنه ذلك، ولو كان القران هو الأفضل لكان الأمر بالعكس.
القول الثالث: أن أفضل الأنساك هو التمتع، وبه قال الإمام أحمد في الصحيح من المذهب، والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وعلي، وبه قال ا***ن وعطاء وطاووس ومجاهد.
وأدلة هذا القول:
الدليل الأول: استدلوا بالأحاديث الصحيحة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا، أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وذلك في أحاديث صحيحة متفق عليها.
ومنها: ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة (.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، لهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد: يا أبا عبد الله، قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة - أي متعة الحج - فقال: يا سلمة كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق. عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك؟
فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، حتى من كان منهم مفردا أو قارنا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم ).
وقال شيخ الإسلام أيضا: ثبت أن المتعة أفضل من حجة مفردة ومن القران، من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنها آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أمرهم بها عينا، بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها.
الثاني: أن التمتع ثبت لأصحابه الذين حجوا معه متمتعين بأمره، وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله عليه الصلاة والسلام لو كان الفعل معارضا.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بالمسلمين إلا هذه الحجة، وفيها أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وأحييت فيها مشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، *** يكن الله ليختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من السبل إلا أقومها وأفضلها، وقد اختار لهم المتعة.
وقد نوقش الاستدلال: بالأحاديث التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة، وتأسفه على سوق الهدي، ليفعل مثل ما أمرهم به، بأنه إنما أمرهم بذلك ليبين لهم جواز العمرة، وليبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاعتمار في أشهر الحج.
وأجيب عن هذه المناقشة: بما تقدم في مبحث فسخ الحج إلى عمرة.
أما القول بأنه قال: ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (؛ تطييبا لقلوب أصحابه، لحزنهم على فوات موافقته، ففاسد، لأن المقام مقام تشريع للعباد، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يخبر. مما يدل على أن ما فعلوه من التمتع أفضل مما استمروا عليه من القران، والأمر على خلاف ذلك، وهل هذا إلا تغرير يتعالى عنه مقام النبوة.
الدليل الثاني: أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى، بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [سورة البقرة آية 196] وذلك دون سائر الأنساك الدليل الثالث: أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة، مع زيادة لنسك هو الدم، فكان ذلك هو الأولى.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: (وفي الجملة لم يوجد شيء من الأحاديث ما يدل على أن بعض الأنواع أفضل من بعض غير هذا الحديث - حديث ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( - قال: فالتمسك به متعين، ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره من المرجحات، فإنها في مقابله ضائعة ).
القول الرابع: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل.
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
ودليل هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه.
إذا فأي الأنساك أفضل؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن الأفضل، قال: (فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة) وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي رضي الله عنه.
ثم قال: (وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل؛ فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن بين الحج والعمرة، فقال: (لبيك عمرة وحجا ). .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - أثناء كلامه على الراجح من الأنساك -: (ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها ثم أراد أن يسافر أخرى للحج فتمتعه أفضل له من الحج، فإن كثيرا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا فأمرهم بالتمتع ولم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة ).
قلت: فيتلخص من كلام شيخ الإسلام:
1 - أن جعل النسكين في سفرتين أفضل من جلهما في سفرة واحدة.
2 - أن جعل النسكين في سفرة واحدة أفضل من سفرة واحدة بالحج وحده.
3 - أن من أتى بالعمرة في سفرة وأتى بالحج في سفرة أخرى، إلا أنه في سفرته للحج كان متمتعا، أفضل ممن سافر للعمرة ثم سافر للحج وحده، وأن الأفضل له في سفرته للحج إن لم يسق الهدي أن يكون متمتعا.

الخاتمة:

أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث أجملها في النقاط التالية:
1 - أن القران يدخل في مسمى التمتع في عرف السلف، فتحمل الأحاديث المروية في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا على أن المراد بالتمتع في هذه الأحاديث هو القران.
2 - أن عمل المفرد والقارن واحد عند جمهور العلماء، إنما يزيد القارن في الهدي فقط، وعلى هذا فتحمل الأحاديث المروية في أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج على أن المراد أفرد عمل الحج، ولم يأت بعمل يخص به العمرة.
3 - أن العلماء لم يتفقوا على جواز التخيير بين الأنساك الثلاثة:
التمتع والإفراد والقران، وإنما هذا هو قول أكثر أهل العلم.
4 - أن المحرم مخير بين الأنساك الثلاثة، يحرم بأيها شاء على القول الراجح.
5 - أنه يجوز، بل يستحب فسخ حج القارن والمفرد إذا لم يسوقا الهدي إلى عمرة ليتمتعا بها، أما من ساق الهدي فلا يجوز له فسخ ما أحرم به.
6 - أن وجوب الفسخ خاص بالصحابة رضي الله عنهم، أما الجواز والاستحباب فهو عام لكل أحد.
7 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا على الصحيح من الأقوال.
8 - أنه يمكن الجمع بين الأحاديث المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا، وكل من روى الإفراد فقد روى أنه حج صلى الله عليه وسلم تمتعا وقرانا، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد عمل الحج.
9 - بالنسبة لأي الأنساك الثلاثة أفضل، فهذا يتنوع باختلاف حال الحاج؛ فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج أخرى، فهذا الإفراد في حقه أفضل من جعل النسكين في سفرة واحدة، تمتعا أو قرانا.
وأما إذا جعل النسكين في سفرة واحدة، فالأفضل في حقه التمتع إن لم يسق الهدي، أما إن ساق الهدي فالأفضل له القران.
وكذلك الذي أتى بالعمرة في سفرة، ثم أراد أن يحج بسفرة أخرى، فالأفضل له التمتع؛ لأنه يكون قد أتى بعمرتين وحجة، وهذا أفضل ممن أتى بعمرة وحجة.

ال**در

http://www.al-islam.com/Content.aspx...ContentID=2971
المصدر: Forums


hgr,g hgpr td ks; hgp[ hg`d Hpvl fi odv hgogr wgn hggi ugdi ,sgl